tafrabooks

شارك على مواقع التواصل

ليلة ظلماء اِشتد فيها أصوات الرعد والبرق؛ هطلت الأمطار بغزارة، يا له من زمهرير أَيبسَ أطراف الفتاة الجميلة إحسان ذات الوجه النضير، حُسنها مُشربًا بحمرة الحياء، إشراق روحها، وصفاء أديمها اِنعكس على ابتسامتها الرقيقة التي تشبه شروق الشمس، عيناها تشبه لون مياه البحر الزرقاء فَنَعِمَتَ بِأَلوَان اَلنعِيم وَضُرُوبه وَرَشَفَت مِن الطبيعة رَشفَة تَسْرِي حَلَاوَتهَا فِي روحها، بينما يتقلب بداخلها أمواج كثيرة؛ تتراءى لها صور خيالية جميلة، تتظاهر دائمًا ببهجتها، رقتها في صمتها .
تاهت دروبها في خيالٍ مرجفٍ؛ يتبعه أنينٍ مُرهفٍ؛ ارتداء معطفها لا يجدي نفعًا؛ أصابتها قشعريرة، كادت تفتك بجسدها النحيل، وكأن البرق يتخلل أكتاف أرضها. تشعر أن الأرض تتحرك، وتهتز من تحت أقدامها بقوة كأنها جان، جسدها يرتجف، تشعر بظمأ شديد تريد الارتواء من بحر الحياة، لكن فجأة تدور رأسها كالذي يغشى عليه من الموت؛ تسبح مُبحرة في بحر الخيال الذي لا تنفد درره الوهمية؛ وكأنها تسقط في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب!. وجدت عناق الضوء محض توهم!.
زاد توهج الجمر في قلبها، وهزها الوجل هزًا عنيفًا؛ أصبح الطقس يشبه صقيع موسكو. هبت الرياح العاصفة، لم يتوقف صرير الأبواب- بل يزداد صداه- كادت النوافذ أن تتحطم من قوة الرياح. اِشتدت قوة الرياح، واشتد معها الهواء؛ لقد تغير الطقس فجأة .
قطعت إحسان طريق شاق، لاهثة وراء نهجان أنفاسها؛ تتسابق مع نبضات قلبها المتسارعة؛ تعجز عن حمل حقائبها الثقيلة، ولكنها تقاوم حتى لا تسقط من يديها. إحسان تعتز بحقائبها كما تعتز بكرامتها، وإنسانيتها؛ فلا تقبل أبدًا أن تكون هائمة على وجهها؛ تتخبط في عرض الطريق.
إحسان لا تلهث وراء القطيع؛ لتحظى بمكانة رفيعة، بل تعدو خلف إنسانيتها؛ لتصل إلى الوجهة التي تُريدها.
اقتربت إحسان من الطريق الموصل إلى القصر. ولكن هناك ضباب كثيف يحجب رؤية القصر بوضوح- صمت عميق يسود أرجاء القصر- أبواب القصر مُوصدة، باب القصر الحديدي يظهر فخامة، وعراقة هذا القصر.
اقتربت إحسان من القصر، سارت إحسان على أطراف قدميها؛ خطواتها لم يُسمع لها دبيب، أنهكها الطريق الطويل حتى وصلت إلى حجرة الحارس الكائنة في مدخل القصر. لم تتحقق جيدًا من شكل الحجرة أو مُحتوياتها.
يا له من شيء لافت للنظر!. هناك جهاز إنذار استمر في إصدار رنات، وذبذبات متوالية؛ هناك أضواء تشبه ضوء إشارات المرور؛ استمر هذا الجهاز في عمله حتى بعد دخولها من باب القصر.
لاحظت إحسان أيضًا اهتمام الحارس بالنظر جيدًا إلى هذه الأضواء، تفرس الحارس وجهها جيدًا، ثم أذن لها بالدخول . بالرغم من هزيز الرياح، وهزيم الرعد إلا أن كان هناك شجرة فريدة من نوعها تُشبه أوراق الشجر المورقة المثمرة "الميموزا" وتسمى أيضًا النبتة الخجولة؛ وريقاتها رقيقة تستجيب عندما يلمسها أحد و تستجيب للحرارة عند طيها، وتتدلى خلال ثوانٍ معدودةٍ!.
سبحان الخالق يستجيب هذا النبات في الضوء والظلام؛ حيث أنه ينطوى، ويتدلى ليلًا كما لو كان أصابه الذبول؛ يخشى من آكلات العشب، كما أنه ينطوي سريعًا؛ لإبعاد الحشرات عن وريقاته، يتفتح نهارًا، ويزهر من جديد.
سُحرت إحسان برونقه البديع، لمست وريقاته كأنها لمست أوراق ندية الكف !. رأت إحسان روضة مُدهامة زاهية. كانت الوريقات تبادلها الحديث في انسجام روحي لا مثيل له!.
استمرت الرياح في النواح؛ راقبت إحسان الحقول الفسيحة الممتدة في الأفق ؛ تشكو إليها وجدها بنظرة؛ تفضي إليها مدها وجزرها. هوادة الليل جعلتها تشعر بالرهبة حتى اصطدمت بحجرة الحارس التي توجد في الجهة اليمنى من باب القصر الرئيسي.
الأشجار تُحيط بها من كل اتجاه . وجدت إحسان كُرسي خشبي هزاز فاخر؛ تأرجحت عليه تأرجح الغزلان الصغيرة، وحلقت في سماء الحرية، رسمت واقعًا جميلًا، فجأة صُعقت آُذنيها بصوت الحارس الطنبل!.
تأملت إحسان وجه هذا الحارس فوجدته رجل مُقَطَّبُ الحاجبين، عيناه سوداوان، يفرك فيهما بشدة؛ يبدو أنه كان نائمًا في سُبات عميق، شعره مجعد، ترتسم على ملامحه الحدة، والغلظة، قصير القامة، يرتدي جلباب رمادي اللون، يتكأ على منسأته؛ خطواته مريبة؛ صوت حذاءه يزلزل الأرض. أوجست إحسان منه خيفة، لكنه لم ينبس ببنت شفه، دارت ساقية الأفكار في رأس إحسان عن شخصية هذا الرجل!. عصفت الساقية بذهنها عصفًا شديدًا!. اعتقدت أنها ضيفة غير مرغوب فيها!. تساءلت إحسان لماذا لم يُرحب الحارس بها؟!.
ربما أراد الاستغراق في النوم، ربما لا يريد أن يؤدي عمله على أحسن وجه، ظنت إحسان أنه حارس كسول، لا يعرف مهامه، غير مُكترث، أخفق في لوم نفسه عن التراخي والكسل، ولا يحُسن استقبال الضيوف.
انبهرت إحسان بمدخل القصر !. لم تر مثل هذا القصر قط!.
مَدخل القصر عبارة عن حديقة جميلة تتزين بالأشجار الخضراء ذواتا أفنان، وأشجار النخيل، والزهور الرائعة؛ عَبقها يملأ المكان. عندما خطت إحسان خطوات بسيطة نحو بهو القصر، وجدت أمامها نافورة جميلة؛ يحوطها حوض رائع يبدو أنه مصنوع من المرمر. أنه قصرًا عريقًا يخطف القلب قبل البصر!.
قادتها قدماها إلى صالة القصر الرائعة التي يوجد بها أثاث فاخر لاستقبال الوجهاء . الحوائط مُزركشة، ومزخرفة بصور طبيعية رائعة خلابة تتسم بالجمال والرقة . الأسقف مُضيئة كاللآلئ بأنواع فريدة من النجف الملون الفاخر.
كأن إحسان غفوت لحظة ثم فجأة!.
أدركت وقوفها على سجاد ناعم جدًا، وكأنه مصنوع من الحرير. في كل ركن من أركان القصر يوجد تُحف رائعة. كان واضحًا للعيان أن هذه التحف باهظة الثمن بخلاف ألوانها المتميزة. اقتربت إحسان بخطوات سريعة نحو تحفة صغيرة على شكل نافورة بها أشكال طبيعية تتشكل فيها فقاعات مُلونة مُبهرة؛ عندما وقفت أمامها رأت شكل يشبه السد العالي، و ينساب منه الماء على شكل شلالات مُتغايرة في الحجم ومختلفة في الألوان. ما هذا الجمال؟!.
إحسان : يبدو أن الحياة هنا حقًا سعيدة، وأهل القصر ينعمون بالهدوء التام، والراحة المُطلقة والرفاهية .
بالطبع إنهم لا يعانون من مشقة الحياة، وكد العيش، وضيق الصدر، ومُنغصات الأيام . ظنت أنهم لا يشعرون بمن حولهم؛ ربما لا يعرفون ما يُعاني منه إحسان تُقلب دفاتر عقلها : هل تستطيع المكوث هنا داخل هذا القصر؟! .
إنه سؤال يستحق الجواب الآن عاجلًا غير آجلًا !.
لن تنتظر إحسان لتعرف الإجابة!.
عقل إحسان مشغول بالأفكار!.
إحسان: لا لن أستطيع المكوث سوف أحمل حقائبي وأغادر.
هل أنتظر لكي يسمحوا ليّ بالمغادرة ؟!.أم أغادر في سكون تام !.
ماذا أفعل ؟!.
ما هذه الحيرة؟!.
ولكن لماذا لم يستقبلني أحد حتى الآن؟!.
إحسان: مُنذ أتيت لم أر إلا وجه الحارس، ولم يشعر بوجودي إلا بعد قرع الباب قرعًا شديدًا.
عندما قرعت إحسان الباب الداخلي للقصر فتحت لها الخادمة. لم تسألها مَن هي؟!. وما سبب قدومها؟!. الحارس لم يكترث بوجودها!. لكن عندما همت بتعريفه بنفسها هز رأسه بعنف، وكشر عن أنيابه متأففًا من حديثها؛ وكأنه يعرف عنها كُل شيء !.
تحدثت إحسان خفية، ودون الجهر من القول : هل أخبرتهم السيدة آمنة بموعد وصولها ؟!.
ولكن لماذا تركتها الخادمة وحدها سابحة في أفكارها!.
هل علمت الخادمة أنها كلما عبرت طريقًا نازعتها نفسها شوقًا إلى بيت جدتها القديم ذات البناء العريق، و استنشقت فيه رائحة الماضي العطرة. وانتقلت بين جدرانه، ولمست أركانه؛ فاستعادت ذاكرتها المنحوتة المهجورة فيه؛ وكأنها تحبو على أرضه، وتتأرجح على أرجُوحتها الملساء المُعلقة في سقفه، و تنساب عليها الذاكرة كالغيث لتروي ظمأها إلى روحها البريئة الساذجة، نقبت في خبايا نفسها؛ فوجدت بقايا دُميتها التي عاصرت معها طفولتها، وتعرقلت بقنينة العطر الفارغة التي مازالت مُحتفظة بشذاها الذي انسكب على ألبوم الذكريات؛ فعثرت على أوراقها المبعثرة في أحضان الماضي؟!.
كانت لا تزال تغشى وجهها منذ فارقت موطنها سحابةٌ سوداءُ من الحزنِ ما تكاد تنقشعُ عنه!.
دمعة حارة قد سقطت من جفنها على وجنتيها!.
حتى الآن لم تر أحدًا من أصحاب هذا القصر!.
وقفت إحسان لوهلة تتأمل تفاصيل القصر، ثم فجأة سمعت صوت باب يُفتح رويدًا رويدًا. وإذا بسيدة شقراء الوجه، عيناها زرقاوان مثل السماء الصافية، ترتدي حجابًا، ربما في العقد الخامس من عمرها، قصيرة القامة، يعلو وجهها ابتسامة رقيقة يبدو أنها سعيدة، فالابتسامة تَنبع من قلب لا يعرف الضجر أو الضيق.
أنها ابتسامة بريئة لم تلوثها مكدرات الحياة. من الواضح أن ليس لديها ما يشغل بالها ، حتمًا تعيش حياة هانئة مع زوجها وأولادها.
اقتربت السيدة من إحسان- و نظرت إليها وهي مبتسمة قائلة:
هل أنتِ السيدة إحسان؟!.
فأجابتُ في عُجالة : نعم.
أنا ممرضة جديدة للسيدة آمنة .
لقد قرأت الإعلان المنشور منذ أربعة أيام عن احتياجها لممرضة تقيم معها في القصر.
السيدة الشقراء: حسنًا ما خبرتك في مجال التمريض؟.
إحسان تنهدت قليلًا ثم أجابت :
أعمل في مجال التمريض منذ أكثر من عشر سنوات، و يسعدني تقديم يد العون للسيدة آمنة. فأجابت السيدة الشقراء قائلة: حسنًا سوف أُبلغها توًا بقدومك.
إحسان: صعدت السيدة الشقراء التي لم أعرف اسمها حتى الآن ولا وظيفتها في القصر إلى السُلم المُدرج. يبدو أن هُناك حُجرات كثيرة في الطابق العلوي، ولكن تراها حتى هذه اللحظة.
سمعت إحسان صوت طفلة صغيرة رُبما لم تتجاوز ست سنوات. رُبما تُغني- أو تمرح في حُجرتها. أغبطها على طٌفولتها البريئة السعيدة. تمنيت لو كانت مكانها تتمتع بالهدوء، والمرح، وصفاء الذهن، ونقاء الفطرة السليمة التي يفوح شذاها، وتنطلق مُسرعة لتقفز في أذهان الصغار ؛ وتتربع على عرش قلوبهم كما تتربع في حاسة الشم عندهم ، وتصل رائحتها العبقة إلى كافة الأركان، وتملأ المكان.
إحسان تراودها أفكار عن هذه الطفلة:
تمنيت إحسان لو عادت الأيام إلى الوراء؛ من الواضح أن هذه الطفلة سعيدة مع رفيقاتها. لا بد أن لديها دُمى كثيرة متنوعة، ظنت إحسان أن والدتها تُتَابعها في سرور. ويبدو أنها تنتظر أباها وتتناول معه وجبة الغداء، ثم تقص عليه كل أحداث يومها الدراسي، وحكاياتها الصغيرة المُسلية التي لا تنتهي . ومن المؤكد أنها مُدللة، وتنعم بحياة مستقرة في ظل والديها.
وفي المساء تذهب هذه الطفلة مع أخواتها لتنام، وتطلب من والدتها أن تقص عليها يوميًا قصص مغامرات، وحكايات بطولية، ونوادر شيقة تبهج روحها، وتصنع البسمات على شَفتيها.
طفلة في مثل سنها لا تحلم إلا بقدوم رفيقاتها كل يوم، ومعهن ألعاب جديدة، ومعهن رسومات مضحكة تتبارين في إتقانها، وألغاز يتنافسن في حل غموضها، فهي تصطحب السرور، والبهجة معها أينما ذهبت أو حلت. بالطبع بهاء روحها يكاد تتنفسه رفيقاتها. ربما لا تخرج زفرات أنفاسها إلا مُحملة بالعبق؛ شهيق روحها مُفعم بالحيوية.
الرياح لا تَهب على هذه الروح البريئة!.
البرق والرعد لا يعرفا طريق الطفولة، وخصوصًا إذا ترعرعت، ونمت في أرض خصبة. ترتوي كل يوم بماء الاهتمام. فإذا نُثرت بذور الرعاية، والألفة في نقاء التربة ؛ طاب الحصاد، وازدهرت القلوب في فصل الربيع . فأشرقت الشمس في يوم عُرسها، وأضاء القمر؛فانجلى الظلام، وترقرقت المقل، وانتشت الأرواح.
ذكريات الطفولة تُنقش على جدران القلوب بأقلام بارزة، وخطوط مُتميزة تبقي جَلية كشاشة مُتحركة نُصب الأعين؛ لا تتحرك، ولا تتغير، ولا تطمسها الأيادي الفاسدة، ولا تنزعها شرور الإنس بخدع ماكرة. الأطفال أكثر عدلًا في تقصي حقائق قلوب الغادينَ والرائحينَ، وأقدر على معرفة مَن الذي يُقيم جُدرانهم المائلة .
قلوب الأطفال لا تُمنح لمَن حولهم هباءً لكنها لها حواس خفية في التحقيق المستمر في مُلابسات الأحداث، والتدقيق في رقة القلوب قبل الكلمات، وتذوق حسن العبارات، وطريقة الإلقاء، والالتفات لتعابير الوجوه قبل رسم البسمات، واللجوء إلى دفء القلوب لا التلاعب بالألفاظ، لا تجدي زيف الخُطب الرنانة نفعًا معهم ، رفضوا أن ينالوا الحب باصطناع القصائد التي لا تمثل إلا عمه القلوب، ووجوم الوجوه.
القلوب الباسمة تصنع الفرحة، وتُحيكها حياكة رائعة في قلوب الأطفال التي لا تنفك عنهم حتى بعد فناء الأجساد. تظل القلوب تستمد قوتها من ضوء، وبريق الكلمات. فلا تتغافل عن ضخ طيب الكلم في قلوب الأبرياء، ولا تنس أن الله يصعد إليه ما تُلقيه من خير في نفوس العباد.
يا لها من طفولة سعيدة تمنيت إحسان لو عاشت مثلها!.
و لكن هيهات أن تعود الأعوام !.
سبحت إحسان في عالم آخر يشبه عالم فضاء النفس البشرية الداخلي، أبحرت في روحها المشتتة، تمعنت في إِباء الشمس التي تشرق من خيوط الظلام، تحسست سكينة قلبها حينما جن عليها الليل، و تخيلت أن الليل في سجال دائم مع الشمس الوهاجة. تراءت لها صورة الكمال التي كانت تنشدها حتى سمعت صخبًا في آُذنيها؛ يُذكرها بأنها أصبحت إنسانة ناضجة لا ترى النقاء إلا خيالًا عابرًا.
أيقنت إحسان أن ليلها أصبح ساكنًا، لكن ثرثرة عقلها لا تتوقف؛ أنها في زحام مع ضجيج النهار. تركت إحسان وراء ظهرها ذكريات عالقة بقلبها لكنها أدركت سريعًا أنها أصبحت إنسانة أخرى في مكانٍ آخرٍ تقف خلف قضبان الذكريات. و هاهي الآن تأمل في بزوغ النهار.
صوت مزعج صاخب كأنه زلزال تُصعق به الآذان!.
إحسان: سَمعت أيضًا صوت سيدة تُنادي بأعلى صوتها على الخادمة؛ فصوتها يهُز أركان المنزل!.
الخادمة تدرجت السُلم سريعًا و إجابتها.
شَردت إحسان بعيدًا!.
هل هذه هي السيدة آمنة أم أنها سيدة أُخرى؟!.
تُرى من هذه الطفلة؟!.
فجأة قُطع حبل أفكارها بسماع جرس باب القصر!.
فإذا بفتاة لم تتجاوز العشرين من عمرها، لم تتحقق إحسان جيدًا من ملامحها لأنها جاءت من حجرة ضيقة بجانب الباب الداخلي للقصر .
أثار فضول إحسان معرفة من الطارق؟!.
رمقت بعينيها الفتاة تستقبل بحفاوة شديدة، وترحيب مبالغ فيه أطفال صغار لم يتجاوزوا الثامنة من أعُمارهم، وتصعد معهم إلى غرفة في الطابق العلوي.
تجمعت أفكارها،وتشتت في آن واحد؛ رددت خفية ما هذا القصر الغامض؟! .
وقفت السيدة الشقراء في الطابق العلوي، وأشارت بالبنان إلى إحسان.
صَعدت إحسان السُلم فإذا بحجرة أمامها مغلقة فجاءت السيدة الشقراء وفتحتها، وأذنت لها بالدخول.
لمحت إحسان سيدة تجلس على أريكة بيضاء، هذه السيدة سمراء البشرة، عيناها سوداوان يقدح منهما الشرر، نحيلة الجسد، قصيرة القامة، ترتدي عباءة بيضاء وحجاب أبيض، ملامحها جميلة، يبدو أنها لا تكترث بقدومها، يبدو أنها قاسية القلب، جافة المشاعر، مُتبلدة ، لبثت شاخصة إلى إحسان هنيهة حتى الآن لم تنبس ببنت شفه .
أشارت السيدة آمنة لها بالجلوس أمامها وقالت : أنا السيدة آمنة، وهذه السيدة سَكينة أختي .
السيدة آمنة: أود أن يجعلك الله سببًا في شفائي. لقد نصحني الطبيب، واستقدام ممرضة ماهرة للإقامة معي ورعايتي. بدأت مهمتك من الآن .
وفي ظل حديثهما،جاءت طفلة جميلة ترتسم البراءة علي ملامحها، سمراء البشرة،عيناها سوداوان، ممشوقة القوام ، شعرُها ناعم، جدائلُها معقودة بإتقان، ترتدي فستانًا أزرق جميل، وحذاءً أبيضاً.
نَظرت الطفلة إلى إحسان بإمعان ثم أدارت وجهها عنها .
التفتت الطفلة إلى السيدة آمنة قائلة:
مُعلمتي لم تأتِ بعد!. أنني أمقت بشدة عدم الوفاء بالوعود.
ضحك ثغر السيدة آمنة قائلة : هدئي من روعك يا رحيق يا صغيرتي، مهلًا إنكِ لا تعرفي ما أصابها . أحسني الظن بها أنها لم تتأخر قط.
التمسي لها أعذار؛ لعلها تأتي الآن، لا تتسرعي بالحكم على الورى .
استكملت السيدة آمنة حديثها مع إحسان :
عذرًا يا سيدة إحسان لقد قُطع حديثنا بدخول صغيرتي رحيق . إحسان : لا عليك سيدتي . فهذا أمر وارد. ولكن أريد أن أُعبر عن إعجابي الشديد باسم صغيرتك «رحيق» اسم جميل؛ فهو شراب أهل الجنة . قال اللّه تعالي:" إنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ ۚ وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ". أُهنئك على توفيقك في اختيار اسم رائع، ومعنى أروع . قليلًا ما يُوفق الأمهات، والآباء في اختيار أسماء أبنائهم؛ فنجد أسماء أجنبية لا معنى لها، أو تحمل معنى ذميم، وأحيانًا لا يعرفون معناها، أعتقد أنهم يقلدون الغرب تقليدًا أعمى .
تنفست السيدة آمنة الصعداء ثم أردفت:
حقًا والدتها مَن تستحق هذا الثناء لأنها هي مَن اختارت اسمها. شَعُرت إحسان بالإحراج الشديد، وتمتمت بكلمات غير مفهومة: عذرًا سيدتي ظننت أنها ابنتك .
زفرت السيدة آمنة زفرة ألهبت الحجرة
أصاب إحسان الهلع، وأشفقت عليها، ندمت على تدخلها في شأن لا يعنيها. رُبما استحضرت هذه السيدة شيئًا عالقًا في ذهنها.
عزمت إحسان على الاعتذار لها .
إحسان: أخشى أن أكون استدعيت ذكريات مؤلمة بحديثي هذا.
فنظرت إليها السيدة آمنة وقد اغرورقت عيناها بالدموع: أنا أَعذرك!. لكل منا عالم خاص يقبع به وحده لا يعلم الآخرون شيئًا عنه، وحدنا مَن نقتحم خزائنه، ونرمم شقوقه، ونُعيد حصونه، ولا نقترب من أسلاكه الشائكة حتى لا تنزف آلامنا، ويُقطع وتين القلب، وتنفجر قلوبنا، وتفصح عما تُخفيه صدورنا، وتتفتت أرواحنا، وتتبعثر كلماتنا ونلملم ما بقي منها لكي لا تذره الرياح بعيدًا، ونفقد ما تبعثر من وجداننا، ونُصاب بتشتت الذهن، ونخوض المعارك مع الأفكار؛ الفراق أشبه بالممات، ونحن على قيد الحياة.
قلوبنا تبقى متصدعة نرمم بقاياها، ونُطهر جروحها، و نضمد آهاتها، و نكبح جماح هفواتها، و نستعيد أنفسنا بعد أن تبعثرت الأنات، وغدت الآلام تقتحم القلب، وتوجه إليه المدافع، والضربات فيسقط القلب جريحًا، وتزداد فيه الجروح و يقاوم، و يمشي على قدميه متكأ على عصا مهزوزة يتطوح بها تارة يمينًا، وتارة يسارًا .
لا يعرف القلب أين تصل به العَبرَاتُ؟!. هل تقذفه في مهب الرياح ليلتقى الصدمات؟!.
أم هل ستصل به إلى بر الأمان ، وتحمله راكبًا في زورق الرضا، والحمد ،والاحتساب؟!.
دائمًا يهزمنا ماضينا، و يشمت بنا حاضرنا، لأننا نبعثر في ذاكرتنا التي تُريق دماءنا على أرض الحنين كحنين النيبِ إلى فصالها!. أظلني الليل بهمومه، وأثقلت الحياة عليّ رزءً من أَرزائها!. كأنما صوب إليّ سهمًا رائشًا فأصمت به كبدي، وجعلني أئِن أنين الوالهة الثكلى.
1 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.